فصل: خلافة الظاهر بأمر الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة الظاهر بأمر الله:

وهو خامس ثلاثينهم، ولما توفي الإمام الناصر بويع ولده الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، فأظهر العدل، وأزال المكوس، وأخرج المحبوسين، وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادراً، ولم تطل مدته في الخلافة، غير تسعة أشهر.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة فيها سار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق ونازل حمص، وكان قد اتفق مع جلال الدين بن خوارزم شاه، ومع مظفر الدين صاحب إربل، على أن يكونوا يداً واحدة، وكان الملك الأشرف ببلاده الشرقية، ثم رحل المعظم عن حمص إلى دمشق بسبب كثرة ما مات من خيله وخيل عسكره، وورد عليه أخوه الملك الأشرف طلباً للصلح، وقطعاً للفتن، فبقي مكرماً ظاهراً، وهو في الباطن كالأسير معه، وأقام الملك الأشرف عند أخيه المعظم إلى أن انقضت هذه السنة، وأما الملك الكامل فإنه كان بمصر، وقد تخيل من بعض عسكره، فما أمكنه الخروج عنها.
وفي هذه السنة فتح السلطان جلال الدين تفليس من الكرج، وهي من المدن العظام.
وفي هذه السنة سار جلال الدين ونازل خلاط، وهي منازلته الأولى، فطال القتال بينهم، وكان نائب الأشرف بخلاط، الحاجب حسام الدين علي الموصلي، وكان نزوله عليها ثالث عشر ذي القعدة، ورحل عنها لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بسبب كثرة الثلوج.
ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله:
وفي رابع عشر رجب من هذه السنة، توفي الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله، وكان متواضعاً محسناً إلى الرعية جداً، وأبطل عدة مظالم منها: أنه كان بخزانة الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكان زيادة الصنجة في كل دينار حبة، فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك، وأوله. {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1: 3]. وعمل صنجة المخزن مثل صنجة المسلمين، وكان مضاداً لأبيه الناصر في كثير من أحواله، منها: أن مدة خلافة أبيه كانت طويلة، ومدة خلافته كانت قصيرة، وكان أبوه متشيعاً، وكان الظاهر سنياً، وكان أبوه ظالماً جماعاً للمال، وكان الظاهر في غاية العدل وبذل الأموال للمحبوسين على الديون وللعلماء.

.خلافة المستنصر بالله:

وهو سادس ثلاثينهم، ولما توفي الظاهر، ولي الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وكان للظاهر ولد آخر يقال له الخفاجي، في غاية الشجاعة، وبقي حياً حتى أخذت التتر بغداد، وقتل، ولما تولى المستنصر الخلافة سلك في العدل والإحسان مسلك أبيه الظاهر.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى بلاد الملك المسعود الأرتكي صاحب آمد، فنزل كيقباذ بملطية، وهي من بلاد كيقباذ، وأرسل عسكراً ففتحوا حصن منصور وحصن الكختا، وكانا لصاحب آمد المذكور.
وفيها في خامس عشر ذي الحجة نازل جلال الدين مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف وبها نائبه حسام الدين علي الحاجب، وهي منازلته الثانية، وجرى بينهم قتال شديد، وأدركه البرد فرحل عنها في السنة المذكورة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة والملك الكامل بديار مصر، وجلال الدين خوارزم شاه مالك أذربيجان وآران وبعض بلاد الكرج وعراق العجم وغيرها، وهو موافق الملك المعظم على حرب أخويه الكامل والأشرف، والرسل لا تنقطع بين المعظم وجلال الدين، والملك الأشرف مقيم كالأسير عند أخيه الملك المعظم، ولما رأى الملك الأشرف حاله مع أخيه المعظم، وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد، أجابه كالمكره إلى ما طلبه منه، وحلف له أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الملك الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه الملك المعظم، فرحل الملك الأشرف في جمادى الآخرة من هذه السنة، فكانت مدة مقامه مع المعظم نحو عشرة أشهر.
ولما استقر الملك الأشرف ببلاده، رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه الملك المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما تحقق الملك الكامل اعتضاد أخيه الملك المعظم بجلال الدين، خاف من ذلك وكاتب الإمبراطور ملك الفرنج في أن يقدم إلى عكا ليشغل سر أخيه المعظم عما هو فيه، ووعد الإمبراطور بأن يعطيه القدس، فسار الإمبراطور إلى عكا، فبلغ المعظم ذلك، فكاتب أخاه الأشرف واستعطفه.
وفي هذه السنة انتزع الأتابك طغريل، الشغر وبكاس من الملك الصالح أحمد ابن.الملك الظاهر، وعوضه عنها بعينتاب والراوندان.
وفيها سار الحاجب حسام الدين علي، نائب الملك الأشرف بخلاط، بعساكر الملك الأشرف إلى بلاد جلال الدين، واستولى على خوى وسلماس ونقجوان.
ذكر وفاة الملك المعظم صاحب دمشق:
في هذه السنة في ذي القعدة، توفي الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أيي بكر بن أيوب بقلعة دمشق، بالدوسنطاريا، وعمره تسع وأربعون سنة، وكانت مدة ملكه دمشق تسع سنين وشهوراً وكان شجاعاً، وكان عسكره في غاية التجمل، وكان يجامل أخاه الملك الكامل ويخطب له ببلاده، ولا يذكر اسمه معه، وكان الملك المعظم قليل التكلف جداً، في غالب الأوقات لا يركب بالسناجق السلطانية، وكان يركب وعلى رأسه كلوته صفراء، بلا شاش، ويتخرق الأسواق من غير أن يطرق بين يديه كما جرت عادة الملوك، ولما كثر مثل هذا منه، صار، الإنسان إذا فعل أمراً لا يتكلف له، يقال قد فعله بالمعظمي، وكان عالماً فاضلاً في الفقه والنحو وكان شيخه في النحو تاج الدين زيد بن الحسن الكندي، وفي الفقه جمال الدين الحصيري، وكان حنفياً متعصباً لمذهبه، وخالف جميع أهل بيته فإنهم كانوا شافعية، ولما توفي الملك المعظم ترتب في مملكته وأعمالها بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره الأمير عز الدين أيبك المعظمي، وكان لأيبك المذكور صرخد.
ذكر وفاة ملك المغرب وأخبار الذين تملكوا بعده:
في هذه السنة خلع العادل عبد الله بن يعقوب، المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشرين وستمائة، بعد خلع عبد الواحد وقتله. وفي أيام العادل عبد الله المذكور، كانت الوقعة بين المسلمين والفرنج بالأندلس على طليطلة، انهزمت فيها المسلمون هزيمة قبيحة، وهذه الوقعة هي التي هدت دعائم الإسلام بالأندلس، ولما خلع عبد الله العادل المذكور، حبس ثم خنق، ونهب المصموديون قصره بمراكش، واستباحوا حرمه.
ثم ملك بعده يحيى بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، ويحيى يومئذ ما خط عذاره، ولما تمت بيعة يحيى وصل الخبر أنه قد قام بإشبيلية إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو العادل عبد الله، وتلقب إدريس بالمأمون، وجميعهم كانوا يتلقبون بأمير المؤمنين، وتعقد البيعة لهم بالخلافة، ولما استقر أمر إدريس المأمون المذكور في إشبيلية، ثارت جماعة من أهل مراكش، وانضم إليهم العرب ووثبوا على يحيى بن محمد الناصر بمراكش، فهرب يحيى إلى الجبل، ثم اتصل بعرب المعقلي فغدروا به وقتلوه، وخطب للمأمون إدريس في مراكش، واستقر أمره في الخلافة بالبرين، بر الأندلس وبر العدوة.
ثم خرج على المأمون إدريس المذكور بشرق الأندلس، المتوكل بن هود، واستولى على الأندلس، ففارق إدريس الأندلس وسار من إشبيلية وعبر البحر ووصل إلى مراكش، وخرجت الأندلس حينئذ عن ملك بني عبد المؤمن، ولما استقر المأمون إدريس في ملك مراكش تتبع الخارجين على من تقدمه من الخلفاء، فقتلهم عن آخرهم، وسفك دماء كثيرة، حتى سموه لذلك حجاج المغرب، وكان المأمون إدريس المذكور فصيحاً عالماً بالأصول والفروع، ناظماً ناثراً، أمر بإسقاط اسم مهديهم ابن تومرت من الخطبة على المنابر، وعمل في ذلك رسالة طويلة، أفصح فيها بتكذيب مهديهم المذكور، وضلاله، ثم ثار على إدريس المذكور أخوه، بسبتة، فسار إدريس من مراكش إليه وحصره بسبتة، ثم بلغ إدريس وهو محاصر سبتة أن بعض أولاد محمد الناصر بن يعقوب المنصور قد دخل إلى مراكش، فرحل إدريس عن سبتة وسار إلى مراكش فمات في الطريق، بين سبتة ومراكش.
ولما مات المأمون إدريس، ملك بعده ابنه عبد الواحد بن المأمون إدريس، وتلقب المذكور بالرشيد، ثم توفي الرشيد عبد الواحد بن المأمون إدريس بن يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن غريقاً في صهريج بستان له، بحضرة مراكش، في سنة أربعين وستمائة، وكان الرشيد عبد الواحد المذكور حسن السياسة، وكان أبوه إدريس قد أبطل اسم مهديهم من الخطبة، فأعاده عبد الواحد المذكور، وقمع العرب، إلا أنه تخلى للذاته لما استقر أمره، ولم يخطب للرشيد عبد الواحد المذكور بإفريقية، ولا بالمغرب الأوسط.
ولما مات الرشيد عبد الواحد المذكور، ملك بعده أخوه علي بن إدريس، وتلقب بالمعتضد أمير المؤمنين، وكان أسود اللون، وكان مدحوضاً في حياة والده، وسجنه في بعض الأوقات، وقدم عليه أخاه الصغير عبد الواحد المذكور، واستمر المعتضد علي بن إدريس المذكور حتى قتل وهو محاصر قلعة بالقرب من تلمسان، في صفر من سنة ست وأربعين وستمائة.
ثم ملك بعد المعتضد الأسود المذكور، أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف، في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وستمائة، وتلقب بالمرتضي، وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة، دخل الواثق أبو العلا إدريس المعروف بأبي دبوس مراكش، وهرب المرتضي إلى أزمور من نواحي مراكش فقبض عليه عامله بها، وبعث إلى الواثق بذلك، فأمره الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين وستمائة، بموضع يقال له كتامة، بعده عن مراكش ثلاثة أيام. وأقام الواثق أبو دبوس ثلاث سنين وقتل في الحروب التي كانت بينه وبين بني مرين ملوك تلمسان، وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق أبي دبوس المذكور في المحرم سنة ثمان وستين وستمائة بموضع بينه وبين مراكش مسيرة ثلاثة أيام في جهتها الشمالية، واستولى بنو مرين على ملكهم، وقد حصل الاختلاف في نسب أبي دبوس فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن، أن أبا دبوس، هو ابن إدريس المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة:
في هذه السنة أرسل الملك الكامل صاحب مصر، يطلب من ابن أخيه الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب دمشق، حصن الشوبك، فلم يعطه الملك الناصر ذلك، ولا أجابه إليه، فسار الملك الكامل من مصر في هذه السنة في رمضان إلى الشام، ونزل على تل العجول بظاهر غزة، وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد ابن أخيه الملك الناصر داود المذكور، صاحب دمشق حينئذ، وكان صحبة الملك الكامل الملك المظفر محمود ابن السلطان الملك المنصور صاحب حماة، وهو موعود من الملك الكامل أنه ينتزع حماة من أخيه الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور، ويسلمها إليه، ولما قصد الملك الكامل انتزاع بلاد الملك الناصر ابن المعظم صاحب دمشق، استنجد الناصر داود بعمه الملك الأشرف، وأرسل إليه وهو ببلاده الشرقية، فقدم الملك الأشرف إلى دمشق ودخل هو والناصر داود إلى قلعة دمشق راكبين، قال القاضي جمال الدين بن واصل: كنت إذ ذاك حاضراً بدمشق، ورأيت الملك الأشرف راكباً مع ابن أخيه، وعلى رأس الملك الأشرف شاش علم كبير، ووسطه مشدود بمنديل، وكان وصول الأشرف إلى دمشق في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المجاهد شركوه، فإنه كان من المنتمين إلى الملك الأشرف، ثم وقع الاتفاق أن يسير الناصر داود وشيركوه مع الملك الأشرف إلى نابلس، فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الملك الأشرف إلى أخيه الكامل إلى غزة شافعاً في ابن أخيهما الناصر داود، ففعلوا ذلك، ولما وصل الملك الأشرف إلى أخيه الكامل، وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من بلاد الملك الأشرف، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة أفيق وما عدا ذلك من بلاد دمشق، يكون للملك الكامل، وأن ينتزع حماة من الملك الناصر قليج أرسلان، ويعطي الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور، وأن ينتزع سلمية من المظفر محمود، وكانت إقطاعه، لما كان مقيماً بمصر عند الملك الكامل، ويعطي لشيركوه صاحب حمص، وخرجت السنة والأشرف عند أخيه الكامل بظاهر غزة، وقد اتفقا على ذلك.
ذكر غير ذلك:
وفي هذه السنة عاود التتر إلى قصد البلاد التي بيد جلال الدين بن خوارزم شاه، وجرت بينه وبينهم حروب كثيرة، كان في أكثرها الظفر للتتر.
وفيها قدم الإمبراطور إلى عكا بجموعه، وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين ابن الشيخ يستدعيه إلى قصد الشام، بسبب أخيه المعظم، فوصل الإمبراطور وقد مات المعظم، فنشب به الملك الكامل، ولما وصل الإمبراطور استولى على صيدا، وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب، فعمر الفرنج سورها واستولوا عليها، والإمبراطور معناه: ملك الأمراء بالفرنجية. وإنما اسم الإمبراطور المذكور، فرديك. وكان صاحب. جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية. قال القاضي جمال الدين بن واصل: لقد رأيت تلك البلاد لما توجهت رسولاً من الملك الظاهر بيبرس الصالحي إلى الإمبراطور ملك تلك البلاد. قال: وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج فاضلاً، محباً للحكمة والمنطق والطب، مائلاً إلى المسلمين، لأن منشأه بجزيرة صقلية، وغالب أهلها مسلمون، وترددت الرسل بين الملك الكامل وبين الإمبراطور إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة بعد فراغ جلال الدين من التتر، قصد جلال الدين المذكور بلاد خلاط، ونهب القرى وقتل وخرب البلاد وفعل الأفعال القبيحة.
وفيها خاف غياث الدين تيزشاه من أخيه جلال الدين ففارقه واستجار بالإسماعيلية.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة ولما جرى بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف الاتفاق على نزع دمشق من الناصر داود، بلغ الناصر داود ذلك، وهو بنابلس، فرحل إلى دمشق، وكان قد لحقه بالغور عمه الملك الأشرف، وعرفه ما أمر به عمه الملك الكامل، وأنه لا يمكنه الخروج عن مرسومه، فلم يلتفت الناصر داود إلى ذلك وسار إلى دمشق، وسار الأشرف في إثره وحصره بدمشق، والملك الكامل مشتغل بمراسلة الإمبراطور، ولما طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بداً من المهادنة، أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه، على أن تستمر أسواره خراباً ولا يعمرها الفرنج، ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة، ولا إلى الجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين، ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكا إلى القدس، ووقع الاتفاق على ذلك، وتحالفا عليه، وتسلم الإمبراطور القدس في هذه السنة في ربيع الآخر على هذه القاعدة التي ذكرناها، وكان ذلك، والملك الناصر محصور بدمشق، وعمه الأشرف محاصره بأمر الملك الكامل، فأخذ الناصر داود في التشنيع على عمه بذلك، وكان بدمشق الشيخ شمس الدين يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي، وكان واعظاً وله قبول عند الناس، فأمره الناصر داود بعمل مجلس وعظ، يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلساً عظيماً، ومن جملة ما أنشد قصيدة تائية ضمنها بيت دعبل الخزاعي وهو:
مدارس آيات خلت من تلاوة ** ومنزل وحي مقفر العرصات

فارتفع بكاء الناس وضجيجهم.
ذكر انتزاع دمشق:
ولما عقد الملك الكامل الهدنة مع الإمبراطور، وخلا سره من جهة الفرنج، سار إلى دمشق، ووصل إليها في جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد الحصار على دمشق، ووصل إلى الملك الكامل رسول الملك العزيز صاحب حلب، وخطب بنت الملك الكامل، فزوجه بنته فاطمة خاتون، التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل ابن الملك الكامل، ثم استولى الملك الكامل على دمشق، وعوض الناصر داود عنها بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وأخذ الملك الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر، وهي حران والرها وغيرهما، التي كانت بيد الملك الأشرف، ثم نزل الناصر داود عن الشوبك، وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم دمشق الملك الأشرف، وتسلم الكامل من الأشرف البلاد الشرقية المذكورة.
ذكر وفاة الملك المسعود صاحب اليمن ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب:
في هذه السنة توفي الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، المعروف باقسيس. وكان قد مرض باليمن، فكره المقام بها وعزم على مفارقة اليمن، وسار إلى مكة وهي له كما تقدم ذكره، فتوفي بمكة ودفن بالمعلى، وعمره ست وعشرون سنة، وكانت مدة ملكه اليمن أربع عشرة سنة، وكان الملك المسعود لما سار من اليمن، قد استخلف على اليمن علي بن رسلول، وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى، ووصل الخبر بوفاة الملك المسعود إلى أبيه الملك الكامل، وهو على حصار دمشق، فجلس للعزاء، وخلف الملك المسعود ولداً صغيراً اسمه أيضاً يوسف، وبقي يوسف المذكور حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح أيوب صاحب مصر، وخلف يوسف ولداً صغيراً اسمه موسى، ولقب الملك الأشرف وهو الذي أقامه الترك في مملكة مصر بعد قتل الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر القبض على الحاجب علي نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله:
وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفي، وهو أكبر أمير عنده إلى خلاط، فقبض على الحاجب علي الموصلي وحبسه، ثم قتله، وكان حسام الدين علي الحاجب المذكور، من أهل الموصل، وخدم الملك الأشرف، فجعله نائبه بخلاط، فأحسن إلى الرعية وحفظ البلد، واستولى على عدة بلاد من أذربيجان، مثل نقجوان وغيرها، على ما تقدم ذكره، فقبض عليه الملك الأشرف وقتله، قيل أن ذلك لذنب منه، لم يطلع عليه الناس، وأطلع عليه الملك الكامل والملك الأشرف، وهذا الحاجب حسام الدين المذكور، كان كثير الخير والمعروف، بنى الخان الذي بين حران ونصيبين وبنى الخان الذي بين حمص ودمشق وهو الخان المعروف بخان بريح العطش، وهرب مملوك لحسام الدين الحاجب المذكور، لما قتل أستاذه، ولحق بجلال الدين، فلما ملك جلال الدين خلاط على ما سنذكره، قبض على أيبك المذكور وسلمه إلى المذكور فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
ذكر استيلاء الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد على حماة:
ولما سلم الملك الكامل دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، سار من دمشق، ونزل على مجمع المروج، ثم نزل سلمية، وأرسل عسكراً نازلوا حماة وبها صاحبها الملك الناصر قليج أرسلان، وكان فيه جبن، ولو عصى بحماة وطلب عنها عوضاً كثيراً لأجابه الملك الكامل إليه، ولكنه خاف، وكان في العسكر الذين نازلوه شيركوه صاحب حمص، فأرسل الناصر صاحب حماة يقول لشيركوه، إني أريد أن أخرج إليك بالليل لتحضرني عند السلطان الملك الكامل، وخرج الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب المذكور إلى شيركوه، في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، وأخذه شيركوه ومضى به إلى الملك الكامل وهو نازل على سلمية، فحين رأى الملك الكامل قليج أرسلان المذكور شتمه وأمر باعتقاله، وأن يتقدم إلى نوابه بحماة بتسليمها إلى الملك الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر السلطان الملك الكامل، فامتنع من ذلك الطواشيان بشر ومرشد المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للملك الناصر يلقب الملك المعز ابن الملك المنصور صاحب حماة، فملكوه حماة وقالوا للملك الكامل: لا نسلم حماة لغير أحد من أولاد تقي الدين، فأرسل الملك الكامل يقول للملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، اتفق مع غلمان أيبك وتسلم حماة، وكان الملك المظفر نازلاً على حماة من جملة العسكر الكاملي، فراسل الملك المظفر الحكام حماة، فحلفوا له وواعدوا الملك المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له، فحضر الملك المظفر سحر الليلة التي عينوها، ففتحوا له باب النصر، ودخل الملك المظفر ومضى إلى دار الوزير المعروفة بدار الأكرم داخل باب المغار، وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية، وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور، وحضر أهل حماة وهنوا الملك المظفر بملك حماة، وكان ذلك في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، وكان مدة ملك الملك الناصر قليج أرسلان حماة تسع سنين إلا نحو شهرين، وأقام الملك المظفر في دار الأكرم يومين وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة، وتسلمها، وجاء عيد الفطر من هذه السنة والملك المظفر مالك حماة، وعمره يومئذ نحو سبع وعشرين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وكان أخوه الملك الناصر قليج أرسلان أصغر منه بسنة، ولما ملك الملك المظفر حماة، فوض تدبير أمورها، صغيرها وكبيرها، إلى الأمير سيف الدين علي الهدباني، وكان سيف الدين علي بن أبي علي المذكور، قد خدم الملك المظفر بعد ابن عمه حسام الدين ابن أبي علي الذي كان نائب الملك المظفر بسلمية، لما سلمت إليه، وهو بمصر عند الملك الكامل.
ثم حصل بين الملك المظفر وبين حسام الدين بن أبي علي وحشة، ففارقه حسام الدين المذكور واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وحظي عنده وصار أستاذ داره، وخدم ابن عمه سيف الدين علي المذكور الملك المظفر، وكان يقول له: أشتهي أن أراك صاحب حماة، وأكون بعين واحدة، فأصيبت عين سيف الدين علي على حصار حماة، لما نازلها عسكر الملك الكامل، وبقي بفرد عين، فحظي عند الملك المظفر لذلك، ولكفاية سيف الدين المذكور، وحسن تدبيره. ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، انتزع الملك الكامل سلمية منه، وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص، على ما كان وقع عليه الاتفاق من قبل ذلك، ثم إن الملك الكامل رسم للملك المظفر أن يعطي أخاه الملك الناصر قليج أرسلان بارين بكمالها، فامتثل لذلك وسلم قلعة بارين إلى أخيه الملك الناصر، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة والمعرة، وكان بحماة تقدير أربعمائة ألف درهم للملك الناصر، وكان قد رسم الملك الكامل للملك المظفر أن يعطي المال المذكور أخاه الملك الناصر، فماطل المظفر في ذلك، ولم يحصل للملك الناصر من ذلك شيء، ولما استقر الملك المظفر بحماة مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز محمد بن عبد المحسن الأنصاري الدمشقي بقصيدة، من جملتها:
تناهى إليك الملك واشتد كاهله ** وحل بك الراجي فحطت رواحله

ترحلت عن مصر فأمحل ربعها ** ولما حللت الشام روض ما حله

وعزت حماة في حمى أنت غابه ** بصولته تحمى كليب ووائله

وقد طال ما ظلت بتدبير أهوج ** يخيب مرجيه ويحرم سائله

ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، رحل الملك الكامل عن سلمية إلى البلاد الشرقية التي أخذها من أخيه الملك الأشرف عوضاً عن دمشق، فنظر في مصالحها، ثم سافر الملك المظفر من حماة ولحق الملك الكامل، وهو بالشرق، عقد له الملك الكامل العقد هناك على ابنته غازية خاتون بنت الملك الكامل، وهي شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهي والدة الملك المنصور صاحب حماة، وأخيه الملك الأفضل نور الدين علي، ابني الملك المظفر محمود، ثم عاد الملك المظفر إلى حماة وقد قضيت أمانيه بملك حماة، ووصلته بخاله الملك الكامل، كان يتمنى ذلك لما كان بالديار المصرية، وكان يصحبه وهو بمصر رجل من أهلها يقال له الزكي القومصي، فاتفق وهما بمصر، وقد جرى ذكر ملك الملك المظفر حماة وزواجه بنت خاله الملك الكامل، فأنشده الزكي القومصي:
متى أراك كما أهوى وأنت ومن ** تهوى كأنكما روحان في بدن

هناك أنشد والأقدار مصغية ** هنيت بالملك والأحباب والوطن

فقال له الملك المظفر: إن صار ذلك يا زكي أعطيتك ألف دينار مصرية، فلما ملك الملك المظفر حماة أعطى الزكي ما وعده به، ولما فرغ الملك الكامل من تقرير أمر البلاد الشرقية وهي حران وما معها من البلاد، مثل رأس عين والرها وغير ذلك، عاد إلى الديار المصرية.
وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف أخاه صاحب بصرى، الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، بعسكر، فنازل بعلبك وبها صاحبها الملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، واستمر الحصار عليه.
وفيها سار جلال الدين ملك الخوارزمية وحاصر خلاط، وبها أيبك نائب الملك الأشرف، إلى أن خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة:
ذكر عمارة شميميش:
في هذه السنة شرع صاحب حمص شيركوه في عمارة قلعة شميميش، وكان لما سلم إليه الملك الكامل سلمية، قد استأذنه في عمارة تل شميميش قلعة، فأذن له بذلك، ولما أراد شيركوه عمارته، أراد الملك المظفر صاحب حماة منعه من ذلك، ثم لم يمكنه ذلك لكونه بأمر الملك الكامل.
ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك:
وفي هذه السنة سلم الملك الأمجد بهرام شاه لن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بعلبك، إلى الملك الأشرف، أطول الحصار عليه، وعوضه الملك الأشرف عنها الزبداني وقصير دمشق، الذي هو شماليها، ومواضع أخر، وتوجه الملك الأمجد وأقام بداره التي داخل باب النصر بدمشق، المعروفة بدار السعادة، وهي التي ينزلها النواب.
ذكر مقتل الملك الأمجد:
لما أخذت منه بعلبك ونزل بداره المذكورة، كان قد حبس بعض مماليكه في مرقد عنده بالدار، وجلس الملك الأمجد قدام باب المرقد يلعب بالنرد، ففتح المملوك المذكور الباب ومعه سيف، وضرب به أستاذه الملك الأمجد فقتله، ثم طلع المملوك إلى سطح الدار وألقى نفسه إلى وسطها فمات، ودفن الملك الأمجد بمدرسة والده التي على الشرف، وكانت مدة ملكه بعلبك تسعاً وأبعين سنة، لأن عم أبيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين ملكه بعلبك، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، لما مات أبوه فرخشاه، وانتزعت منه هذه السنة، فذلك خمسون سنة إلا سنة، وكان الملك الأمجد أشعر بني أيوب، وشعره مشهور.
ذكر ملك جلال الدين خلاط:
في هذه السنة، لما طال حصار جلال الدين على خلاط، واشتد مضايقتها، هجمها بالسيف، وفعل في أهلها ما يفعلونه التتر من القتل والاسترقاق والنهب، ثم قبض على نائب الملك الأشرف بها، وهو مملوكه أيبك، وسلمه إلى مملوك حسام الدين الحاجب، علي الموصلي، فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
ذكر كسرة جلال الدين من الملك الأشرف:
ولما جرى من جلال الدين ما جرى، من أخذ خلاط، اتفق صاحب الروم كيقباذ بن كيخسرو ابن قليج أرسلان، والملك الأشرف ابن الملك العادل، فجمع الملك الأشرف عساكر الشام وسار إلى سيواس، واجتمع فيها بملك بلاد الروم علاء الدين كيقباذ المذكور، وسار إلى جهة خلاط، والتقى الفريقان في التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة، فولى الخوارزميون وجلال الدين منهزمين، وهلك غالب عسكره قتلاً وتردياً من رؤوس جبال كانت في طريقهم، وضعف جلال الدين بعدها، وقويت عليه التتر، وارتجع الملك الأشرف خلاط وهي خراب يباب، ثم وقعت المراسلة بين الملك الأشرف وكيقباذ وجلال الدين وتصالحوا، وتحالفوا على ما بأيديهم، وأن لا يتعرض أحد منهم إلى ما بيد الآخر.
وفي هذه السنة استولى الملك المظفر غازي ابن الملك العادل على أرزن من ديار بكر، وهي غير أرزن الروم، وكان صاحب أرزن ديار بكر يقال له حسام الدين، من بيت قديم في الملك، فأخذها منه الملك المظفر غازي المذكور، وعوضه عن أرزن بمدينة حاني، وهذا حسام الدين من بيت كبير يقال لهم بيت الأحدب، وأرزن لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملك شاه السلجوقي إلى الآن، فسبحان من لا يزول ملكه.
وفيها جمعت الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماة، فخرج إليهم الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، والتقاهم عند قرية بين حماة وبارين يقال لها أفيون، وكسرهم كسرة عظيمة، ودخل الملك المظفر محمود حماة مؤيداً منصوراً.
وفيهما ولد الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب،
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة، والسلطان الملك الكامل بديار مصر، وأخوه الملك الأشرف بدمشق في ملاذه، وقد تخلى عن البلاد الشرقية، فإن حران وما معها صارت لأخيه الملك الكامل، وخلاط صارت خرابا يباباً، ولم يكن للملك الأشرف ابن ذكر، فاقتنع بدمشق واشتغل باللهو والملاذ.
وفيها سار الملك الأشرف من دمشق إلى عند أخيه الملك الكامل وأقام عنده بالديار المصرية متنزهاً.
ذكر قصد التتر بلاد الإسلام:
وفي هذه السنة عاودت التتر قصد بلاد الإسلام، وسفكوا وخربوا مثلما تقدم ذكره، وكان قد ضعف جلال الدين لقبح سيرته وسوء تدبيره، ولم يترك له صديقاً من ملوك الأطراف، وعادى الجميع، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلف عليه لما حصل لجلال الدين من فساد عقله، وسببه أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة، واتفق موت ذلك المملوك، فحزن عليه حزناً شديداً لم يسمع بمثله، وأمر أهل توريز بالخروج والنواح واللطم عليه، ثم أنه لم يدفنه، وبقي يستصحب ذلك المملوك الميت معه حيث سار وهو يلطم ويبكي، وكان إذا قدم إليه الطعام يرسل منه إلى المملوك الميت، ولا يتجاسر أحد أن يتفوه أنه ميت، فكانوا يحملون إليه الطعام ويقولون أنه يقبل الأرض وهو يقول: إني الآن أصلح مما كنت، فأنف أمراؤه من ذلك، وخرج بعضهم عن طاعته، فضعف أمر جلال الدين لذلك، ولكسرته من الملك الأشرف، فتمكنت التتر من البلاد واستولوا على مراغة، وهو استيلاؤهم الثاني.
ذكر قتل جلال الدين:
ولما تمكن التتر من بلاد أذربيجان، سار جلال الدين يريد ديار بكر، ليسير إلى الخليفة ويلتجئ إليه ويعتضد بملوك الأطراف على التتر، ويخوفهم عاقبة أمرهم، فنزل بالقرب من آمد، فلم يشعر إلا والتتر قد كبسوه ليلاً وخالطوا مخيسه، فهرب جلال الدين وقتل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى. ولما قتل تمكنت التتر من البلاد وساقوا حتى وصلوا في هذه السنة إلى الفرات، واضطرب الشام بسبب وصولهم إلى الفرات، ثم شنوا الغارات في ديار بكر والجزيرة، وفعلوا من القتل والتخريب مثلما تقدم.
ومن تاريخ ظهور التتر تصنيف كاتب إنشاء جلال الدين النسوي المنشئ المقدم الذكر، في سنة ست عشرة وستمائة ما اخترناه وأثبتناه من أخبار خوارزم شاه محمد وابنه جلال الدين، لملازمة النسوي المذكور جلال الدين في جميع سفراته وغزواته، إلى أن كبس التتر جلال الدين والمنشئ المذكور، كان معه، فلذلك كان أخبر بأحوال جلال الدين ووالده من غيره. قال محمد المنشئ المذكور: إن خوارزم شاه محمد بن تكش، عظم شأنه واتسع ملكه، وكان له أربعة أولاد، قسم البلاد بينهم، أكبرهم جلال الدين منكبرني، وفوض إليه ملك غزنة، وباميان، والغور، وبست، وتكاباد، وزميزداور، وما يليها من الهند. وفوض خوارزم، وخراسان، ومازندران، إلى ولده قطب الدين زلاغ شاه، وجعله ولي عهده، ثم في آخر وقت عزله عن ولاية العهد، وفوضها إلى جلال الدين منكبرني وفوض كرمان، وكبش، ومكران، إلى ولده غياث الدين تبز شاه، وقد تقدمت أخباره. وفوض العراق إلى ولده ركن الدين غورشاه يحيى، وكان أحسن أولاده خلقاً وخلقاً، وقتل المذكور التتر بعد موت أبيه، وضرب لكل واحد منهم النوب الخمس في أوقات الصلوات، على عادة الملوك السلجوقية، وانفرد أبوهم خوارزم شاه محمد بنوبة ذي القرنين، وأنها تضرب وقتي طلوع الشمس وغروبها، وكانت دبادبه سبعاً وعشرين دبدبة من الذهب، قد رصعت بأنواع الجوهر، وكذا باقي الآلات النوبتية، وجعل سبعة وعشرين ملكاً يضربونها في أول يوم قرعت، وكانوا من أكابر الملوك، أولاد السلاطين، منهم: طغريل بن أرسلان السلجوقي، وأولاد غياث الدين صاحب الغور، والملك علاء الدين صاحب باميان، والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ، والملك سنجر صاحب بخارا، وأشباههم، وكانت أم خوارزم شاه محمد تركان خاتون، من قبيلة بباووت، وهي فرع من فروع يمسك، وكانت بنت ملك من ملوكهم، تزوج بها تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، فلما صار الملك إلى ولده محمد بن تكش، قدم إلى والدته تركان خاتون قبائل يمسك من الترك، فعظم شأن ابنها السلطان محمد بهم، وتحكمت أيضاً بسببهم، تركان خاتون في الملك، فلم يملك ابنها إقليماً إلا وأفرد لخاصها منه ناحية جليلة، وكانت ذات مهابة ورأي، وكانت تنتصف للمظلوم من الظالم، وكانت جسورة على القتل، وعظم شأنها بحيث أنه إذا ورد توقيعان عنها وعن السلطان ابنها ينظر إلى تاريخهما، فيعمل بالأخير منهما، وكان طغر توقيعهما عصمة الدنيا والدين، آلغ تركان، ملكة نساء العالمين، وعلامتها اعتصمت بالله وحده، وكانت تكتبها بقلم غليظ، وتجود الكتابة.
قال المؤلف المذكور: ثم إن خوارزم شاه محمد، لما هرب من التتر بما وراء النهر وعبر جيحون، ثم سار إلى خراسان والتتر تتبعه، ثم هرب من خراسان ووصل إلى عراق العجم، ونزل عند بسطام، أحضر عشرة صناديق، ثم قال إنها كلها جواهر لا تعلم قيمتها، ثم أشار إلى صندوقين منها وقال: إن فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بجملتها، ثم أمر بحملها إلى قلعة أزدهن، وهي من أحصن قلاع الأرض، وأخذ خط النائب بها بوصول الصناديق المذكورة مختومة، فلما استولى جنكزخان على تلك البلاد، حملت إليه الصناديق المذكورة بختومها، ثم إن التتر أدركوا السلطان محمد المذكور، فهرب وركب في المركب ولحقه التتر ورموه بالنشاب، ونجا السلطان منهم، وقد حصل له مرض ذات الجنب، قال: ووصل إلى جزيرة في البحر وأقام بها فريداً طريداً، لا يملك طارفاً ولا تليداً، والمرض يزداد، وكان في أهل مازدران أناس يتقربون إليه بالمأكول وما يشتهيه، فقال في بعض الأيام: أشتهي أن يكون عندي فرس يرعى حول خيمتي، وقد ضربت له خيمة صغيرة، فأهدي إليه فرس أصفر، وكان للسلطان محمد المذكور ثلاثون ألف جشار من الخيل، وكان إذا أهدى إليه أحد شيئاً وهو على تلك الحالة في الجزيرة من مأكول وغيره، يطلق لذلك الشخص شيئاً، ولم يكن عنده من يكتب التواقيع، فيتولى ذلك الرجل كتابة توقيعه بنفسه، وكان يعطي مثل السكين والمنديل علامة بإطلاق البلاد والأموال، فلما تولى ابنه جلال الدين، أمضى جميع ما أطلقه والده بالتواقيع والعلائم، ثم أدركت السلطان محمد المنية وهو بالجزيرة على تلك الحالة، فغسله شمس الدين محمود بن بلاغ الجاويش، ومقرب الدين، مقدم الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن به فكفن بقميصه ودفن بالجزيرة في سنة سبع عشرة وستمائة، بعد أن كان بابه، مزدحم ملوك الأرض وعظمائها يشتدون بجنابه، ويتفاخرون بلثم ترابه. ورقى إلى درجة الملوكية جماعة من مماليكه وحاشيته، فصار طشتداره، وركبداره وسلحداره، وجنداره، وغيرهم من أرباب الوظائف، كلهم ملوكاً، وكان في أعلامهم علامات سود يعرفون بها، فعلامة الدوادار الدواه، والسلحدار القوس، وعلامة الطشتدار المسينة، والحمدار النفجة، وعلامة أميراخور النعل، وعلامة الجاويشية قبة ذهب، وكان يمد السماط بين يديه، ويأكل الناس، ويرفع من الطعام الذي في صدر السماط إلى بين يدي الأكابر إذا قعدوا على السماط للأكل، وكانت الزبادي كلها ذهبية وفضية، وكان السلطان محمد المذكور يختص بأمور لا يشاركه فيها أحد منها. المجتر منشوراً على رأسه إذا ركب، ومنها اللكح، وهي أنبوبة تتخذ من الذهب الأحمر بين أذني مركوب السلطان، يخرج منها المعرفة، وتشد إلى طرف اللجام، ومنها الأعلام السود والسروج السود، والنفج السود، محمولة على أكتاف الجمدارية، ولا تحمل لغيره على الكتف، ومنها ن جنايبه كانت تجر قدامه، وجنايب غيره من الملوك كانت تجر وراءهم، ومنها أن أذناب خيله تلف من أوساطها مقدار شبرين، ومنها الجلوس بين يديه على الركبتين لمن يريد مخاطبته. قال المؤلف المذكور: ثم سار جلال الدين بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم، ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبين التتر من القتال ما تقدم ذكره.
وسار إليه جنكزخان فهرب جلال الدين من غزنة إلى الهند فلحقه جنكزخان على ماء السند، وتصاففا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال، سنة ثمان عشرة وستمائة، وكانت الكرة أولاً على جنكزخان، ثم عادت على جلال الدين وحال بينهما الليل وولى جلال الدين منهزماً وأسر ولد جلال الدين وهو ابن سبع أو ثمان سنين، وقتل بين يدي جنكزخان صبراً. ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيراً، رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه يصحن بالله عليك اقتلنا أو خلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن، وهذه من عجايب البلايا ونوادر المصائب والرزايا.
ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم، فنجا منهم إلى ذلك البر تقدير أربعة آلاف رجل حفاة عراة، ورمى الموج جلال الدين مع ثلاثة عن خواصه إلى موضع بعيد، وفقده أصحابه ثلاثة أيام، وبقي أصحابه لفقده حائرين، وفي تيه الفكر، سائرين إلى أن اتصل بهم جلال الدين فاعتدوا بمقدمه عيداً، وظنوا أنهم انشواً خلفاً جديداً، ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد وقائع انتصر فيها جلال الدين، ووصل إلى لهاوور من الهند، ولما عزم جلال الدين على العود إلى جهة العراق، استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من بلاد الهند، واستناب معه حسن قراق، ولقبه وفاء ملك، وفي سنة سبع وعشرين وستمائة، طرد وفاء ملك بهلوان أزبك، واستولى وفاء ملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند.
ثم إن جلال الدين عاد من الهند ووصل إلى كرمان في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وقاسى هو وعسكره في البراري القاطعة بين كرمان والهند شدائد، ووصل معه أربعة آلاف رجل، بعضهم ركاب أبقار وبعضهم ركاب حمير، ثم سار جلال الدين إلى خورستان واستولى عليها، ثم استولى على أذربيجان، ثم استولى على كنجة وسائر بلاد آران، ثم إن جلال الدين نقل أباه من الجزيرة إلى قلعة أزدهن ودفنه بها، ولما استولى التتر على القلعة المذكورة نبشوه وأحرقوه، وهذا كان فملهم في، كل ملك عرفوا قبره، فإنهم نبشوا محمود بن سبكتكين من غزنة وأحرقوا عظامه، ثم ذكر ما تقدمت الإشارة إليه من استيلاء جلال الدين على خلاط وغير ذلك، ثم ذكر له على جسر قريب آمد وإرساله يستنجد الملك الأشرف ابن الملك العادل فلم ينجده، وعزم جلال الدين على المسير إلى أصفهان، ثم انثنى عزمه عنه وبات بمنزله، وشرب تلك الليلة فسكر سكراً خماره دوار الرأس، وتقطع الأنفاس، وأحاط التتر به وبعسكره مصبحين.
فساهم وبسطهم حرير ** وصبحهم وبسطهم تراب

ومن في كفه منهم قناة ** كمن في كفه منهم خضاب

وأحاطت أطلاب التتر بخركاة جلال الدين وهو نائم سكران، فحمل بعض عسكره وهو أرخان، وكشف التتر عن الخركاة، ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء، فأركبه الفرس وساق أرخان مع جلال الدين وتبعه التتر، فقال جلال الدين لأرخان انفرد عني بحيث تشتغل التتر يتبع سوادك، وكان ذلك خطأ منه، فإن أرخان تبعه جماعة من العسكر وصاروا تقدير أربعة آلاف فارس، وقصد أصفهان واستولى عليها مدة، ولما انفرد جلال الدين عن أرخان ساق إلى باسورة آمد، فلم يمكن من الدخول إلى آمد، فسار إلى قرية من قرى ميافارقين طالباً شهاب الدين غازي بن الملك العادل صاحب ميافارقين، ثم لحقه التتر في تلك القرية، فهرب جلال الدين إلى جبل هناك وبه أكراد يتخطفون الناس، فأخذوه وشلحوه وأرادوا قتله. فقال جلال الدين لأحدهم إني أنا السلطان، فاستبقني أجعلك ملكاً، فأخذه الكردي وأتى به إلى امرأته، وجعله عندها، ومضى الكردي إلى الجبل لإحضار ما له هناك، فحضر شخص كردي ومعه حربة وقال للامرأة، لم لا تقتلون هذا الخوارزمي؟ فقالت المرأة: لا سبيل إلى ذلك، فقد أمنه زوجي. فقال الكردي: إنه السلطان، وقد قتل لي أخاً بخلاط خيراً منه، وضربه بالحربة فقتله.
وكان جلال الدين أسمر قصيراً تركي السارة والعبارة، وكان يتكلم بالفارسية أيضاً، ويكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما كان يكاتبه به أبوه خوارزم شاه محمد، فكان يكتب خادمه المطواع منكبرني، ثم بعد أخذ خلاط كاتبه بعبده، وكان يكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه، ولم يرض أن يكتب لأحد منهم خادمه أو أخوه أو غير ذلك، وكانت علامته على تواقيعه النصرة من الله وحده، وكان إذا كاتب صاحب الموصل أو أشباهه يكتب له هذه العلامة تعظيماً عن ذكر اسمه، وكان يكتب العلامة بقلم غليظ وكان جلال الدين يخاطب بخذاوند عالم، أي صاحب العالم، وكان مقتله في منتصف شوال من هذه السنة، أعني سنة ثمان وعشرين وستمائة، وهذا ما نقلناه من تاريخ محمد المنشئ، وهو ممن كان في خدمة جلال الدين إلى أن قتل، وكان كاتب الإنشاء الذي له، وكان محظياً متقدماً عنده.
ذكر غير ذلك:
وفي هذه السنة انتهى التاريخ الكامل تأليف الشيخ عز الدين علي المعروف بابن الأثير الجزري، المنقول غالب هذا المختصر منه، فإنه ألفه من هبوط آدم إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتوفي عز الدين ابن الأثير المذكور في سنة ثلاثين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى بعد آخر تاريخه بسنتين.
وفيها في ذي القعدة توفي بالقاهرة أبو الحسن يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي النحوي الحنفي، كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، وسكن دمشق زماناً طويلاً، وصنف تصانيف مفيدة منها: منظومتة الألفية المشهورة، وكان مولده سنة أربع وستين وخمسمائة، والزواوي منسوب إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال إفريقية.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة والسلطانان الكامل والأشرف بالديار المصرية، والملك المظفر بحماة مالكها، ومعها المعرة، وأخوه الملك الناصر قليج أرسلان. ببارين مالكها، والعزيز محمد ابن الظاهر غازي قد استقل بملك حلب، والتتر قد استولوا على بلاد العجم كلها، والخليفة المستنصر بالعراق.
ثم ارتحل في هذه السنة الملك الكامل وأخوه الملك الأشرف من ديار مصر، وسارا إلى البلاد الشرقية، فسار الملك الكامل إلى الشوبك، واحتفل له الملك الناصر داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، احتفالاً عظيماً، بالضيافات والإقامات والتقادم، وحصل بينهما الاتحاد التام، وكان نزول الملك الكامل باللجون قرب الكرك، وهي منزله الحجاج في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، ووصل إليه باللجون صاحب حماة الملك المظفر محمود، ملتقياً، وسافر الناصر داود مع الملك الكامل بعسكره إلى دمشق، واستصحب الملك الكامل معه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل نائبه بمصر ولده وولي عهده الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
ثم سار الملك الكامل ونزل سلمية، واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم، ثم سار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، ومحمد بن قرا أرسلان المذكور، هو الذي ملكه السلطان صلاح الدين آمد بعد انتزاعها من ابن نيسان، وكان سبب انتزاع الملك الكامل آمد من الملك المسعود المذكور، لسوء سيرة الملك المسعود، وتعرضه لحريم الناس، وكان له عجوز قوادة يقال لها الأزا، كانت تؤلف بينه وبين نساء الناس الأكابر، ونساء الملوك، ولما نزل الملك المسعود إلى خدمة الملك الكامل وسلم آمد وبلادها إليه، ومن جملة معاقلها حصن كيفا، وهو في غاية الحصانة، أحسن الملك الكامل إلى الملك المسعود وأعطاه إقطاعاً جليلاً بديار مصر، ثم بدت منه أمور اعتقله الملك الكامل بسببها.
ولم يزل الملك المسعود معتقلاً إلى أن مات الملك الكامل، فخرج من الاعتقال واتصل بحماة، فأحسن إليه الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثم سافر الملك المسعود المذكور إلى الشرق واتصل بالتتر فقتلوه، ولما تسلم الملك الكامل آمد وبلادها رتب فيها النواب من جهته وجعل فيها ولده الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وجعل معه شمس الدين صواب العادلي، وخرجت هذه السنة والملك الكامل بالشرق، ولما خرج الملك الكامل من مصر في هذه السنة، خرج صحبته بنتاه فاطمة خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب، وغازية خاتون زوجة الملك المظفر صاحب حماة، بنتا الملك الكامل، وحملت كل منهما إلى بعلها، واحتفل لدخولهما بحماة وحلب.
وفي هذه السنة ظناً توفي علي بن رسول النائب على اليمن، واستقر مكانه ولده عمر بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة:
في هذه السنة رجع السلطان الملك الكامل من البلاد الشرقية بعد ترتيب أمورها وسار إلى ديار مصر، ورجع كل ملك إلى بلده.
ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر:
وكانت شيزر بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان ابن الداية، وكان سابق الدين عثمان ابن الداية المذكور وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد، سابق الدين عثمان ابن الداية، وشمس الدين أخاه، فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك، وجعله حجة لقصد الشام وانتزعه من الملك الصالح إسماعيل فاتصل أولاد الداية بخدمة السلطان صلاح الدين وصاروا من أكبر أمرائه وكانت شيزر إقطاع سابق الدين المذكور، فأقره السلطان صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس، لما قتل صاحبها خمار دكن، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان حتى مات، وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر لملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم إليه وهو على حصارها الملك المظفر محمود صاحب حماة مساعداً له، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلي خدمته فتسلمها في هذه السنة، وهنأ الملك العزيز يحيى بن خالد بن قيسراني بقوله:
يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ** وخص إحسانه الداني مع القاصي

لما رأت شيزر آيات نصرك في ** أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي

ثم ولي الملك العزيز على شيزر وأحسن إلى الملك المظفر محمود صاحب حماة، ورحل كل منهما إلى بلده.
وفي هذه السنة استأذن الملك المظفر محمود صاحب حماة الملك الكامل في انتزاع بارين من أخيه قليج أرسلان، لأنه خشي أن يسلمها إلى الفرنج لضعف قليج أرسلان عن مقاومتهم، فأذن الملك الكامل له في ذلك فسار الملك المظفر من حماة وحاصر بارين وانتزعها من أخيه قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولما نزل قليج أرسلان إلى أخيه الملك المظفر أحسن إليه وسأله في الإقامة عنده بحماة، فامتنع وسار إلى مصر، فبذل له الملك الكامل إقطاعاً جليلاً وأطلق له أملاك جده بدمشق ثم بدا منه ما لا يليق من الكلام، فاعتقله الملك الكامل إلى أن مات قليج أرسلان المذكور في الحبس سنة خمس وثلاثين وستمائة، قبل موت الملك الكامل بأيام.
غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك. وقد تقدم ذكر ملكه أربل بعد موت أخيه نور الدين يوسف بن زين الدين علي في سنة ست وثمانين وخمسمائة، لما كانا في خدمة السلطان صلاح الدين في الجهاد بالساحل، فبقي مالكها من تلك السنة إلى هذه السنة، ولما مات مظفر الدين المذكور، لم يكن له ولد، فوصى بأربل وبلادها للخليفة المستنصر، فتسلمها الخليفة بعد موت مظفر الدين المذكور، وكان مظفر الدين ملكاً شجاعاً، وفيه عسف في استخراج الأموال من الرعية، وكان يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وينفق فيه الأموال الجليلة.
وفيها في شعبان توفي الشيخ عز الدين علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري، ولد بجزيرة ابن عمر في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها ثم صار إلى الموصل مع والده وإخوته، وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي، ومن في طبقته، وقدم بغداد مراراً، حاجاً ورسولاً من صاحب الموصل، وسمع من الشيخين يعيش بن صدقة، وعبد الوهاب بن علي الصوفي، وغيرهما، ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل وانقطع في بيته للتوفير على العلم، وكان إماماً في علم الحديث، وحافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم، وصنف في التاريخ كتاباً كبيراً سماه الكامل، وهو المنقول منه غالب هذا المختصر، ابتدأ فيه من أول الزمان إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات، واختصر كتاب الأنساب للسمعاني، وهو الموجود في أيدي الناس، دون كتاب السمعاني، وورث إلى حلب في سنة ست وعشرين وستمائة، ثم سافر ونزل عند الطواشي طغريل الأتابك بحلب، فأكرمه، إكراماً زائداً، ثم سافر إلى دمشق سنة سبع وعشرين، ثم عاد إلى حلب في سنة ثمان وعشرين، ثم توجه إلى الموصل فتوفي بها في التاريخ المذكور، ونسبة الجزيرة إلى ابن عمر، وهو رجل من أهل برقعيد من أعمال الموصل، اسمه عبد العزيز بن عمر، بنى هذه المدينة فأضيفت إليه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة:
في هذه السنة في المحرم توفي شهاب الدين طغريل الأتابك بحلب.
مسير السلطان الملك الكامل من مصر إلى قتال كيقباذ ملك بلاد الروم:
في هذه السنة وقع من كيقباذ بن كيخسرو ملك بلاد الروم، التعرض إلى بلاد خلاط، فرحل الملك الكامل بعساكره من مصر، واجتمعت عليه الملوك من أهل بيته، ونزل شمالي سلمية في شهر رمضان من هذه السنة، ثم سار بجموعه ونزل على النهر الأزرق في حدود بلد الروم، وقد ضرب في عسكره ستة عشر دهليزاً، لستة عشر ملكاً في خدمته، منهم إخوته الملك الأشرف موسى صاحب دمشق، والملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، والملك الحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، والصالح إسماعيل أولاد الملك العادل، والملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، كان قد أرسله ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب مقدماً على عسكر حلب، إلى خدمة السلطان الملك الكامل، والملك الزاهر صاحب البيرة، داود ابن السلطان صلاح الدين، وأخوه الملك الأفضل موسى صاحب صميصات، ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد ملكها بعد أخيه الملك الأفضل علي، والملك المظفر محمود صاحب حماة، ابن الملك المنصور محمد، والملك الصالح أحمد صاحب عينتاب ابن الملك الظاهر صاحب حلب والملك الناصر داود صاحب الكرك ابن الملك المعظم عيسى، ابن الملك العادل، والملك المجاهد شيركوه صاحب حمص، ابن محمد بن شيركوه.
وكان قد حفظ كيقباذ عك بلاد الروم، الدربندات بالرجال والمقاتلة، فلم يتمكن السلطان من الدخول إلى بلاد الروم من جهة النهر الأزرق، وأرسل بعض العسكر إلى حصن منصور وهو من بلاد كيقباذ، فهدموه، ورحل السلطان وقطع الفرات وسار إلى السويداء، وقدم جاسته تقدير ألفين وخمسمائة فارس مع الملك المظفر صاحب حماة، فسار الملك المظفر بهم إلى خرتبرت، وسار كيقباذ ملك الروم إليهم، واقتتلوا، فانهزم العسكر الكاملي، وانحصر الملك المظفر صاحب حماة في خرتبرت مع جملة من العسكر، وجد كيقباذ في حصارهم والملك الكامل بالسويداء، وقد أحس من الملوك الذين في خدمته بالمخامرة والتقاعد، فإن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم وقال: إن السلطان ذكر أنه متى، ملك بلاد الروم فرقه على الملوك من أهل بيته عوض ما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه لينفرد بملك الشام ومصر، فتقاعدوا عن القتال وفسدت نياتهم، وعلم الملك الكامل بذلك، فأمكنه التحرك إلى قتال كيقباذ، لذلك، ودام الحصار على الملك المظفر صاحب حماة، فطلب الأمان فأمنه كيقباذ، ونزل إليه الملك المظفر، فأكرمه كيقباذ وخلع عليه ونادمه، وتسلم كيقباذ خرتبرت وأخذها من صاحبها، وكان من الأرتقية، قرايب أصحاب ماردين، وكان قد دخل في طاعة الملك الكامل، وصارت خرتبرت من بلاد كيقباذ، وكان نزول المظفر صاحب حماة من خرتبرت يوم الأحد لسبع من ذي القعدة، وأقام عند كيقباذ يومين ثم أطلقه، وسار من عنده لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين وستمائة ووصل بمن معه إلى الملك الكامل وهو بالسويداء من بلاد آمد، ففرح به وقوى نفرة السلطان الملك الكامل يومئذ من الناصر داود صاحب الكرك، فألزمه بطلاق بنته، فطلقها الناصر في داود، وأثبت الملك الكامل طلاقها منه.
وفي هذه السنة استتم بناء قلعة المعرة، وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني، على الملك المظفر صاحب حماة ببنائها، فبناها، وتمت الآن، وشحنها بالرجال والسلاح، ولم يكن ذلك مصلحة، لأن الحلبيين حاصروها فيما بعد، وأخذوها، وخرجت المعرة بسببها.
وفي هذه السنة توفي سيف الدين الآمدي، وكان فاضلاً في العلوم العقلية، والأصولين وغيرها، واسمه علي بن أبي محمد بن سالم الثعلبي، وكان في مبتدأ أمره حنبلياً، ثم انتقل وصار فقيهاً شافعياً، واشتغل بالأصول، وصنف في أصول الفقه، وأصول الدين، والمعقولات عدة مصنفات، وأقام بمصر مدة، وتصدر في الجامع وفي المدرسة الملاصقة لتربة الشافعي، وتحامل عليه الفقهاء الفضلاء، وعملوا محضراً ونسبوه فيه إلى انحلال العقيدة ومذهب الفلاسفة، وحملوا المحضر إلى بعض الفقهاء الفضلاء، ليكتب خطه حسبما وضعوا خطوطهم به فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالقوم أعداء له وخصوم

ولما جرى ذلك استتر الآمدي المذكور وسار إلى حماة، وأقام فيها مدة، ثم عاد إلى دمشق حتى توفي بها في هذه السنة، وكانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وفيها توفي الصلاح الأربلي، وكان فاضلاً شاعراً أميراً محظياً عند الملكين الكامل والأشرف ابني الملك العادل.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة:
والملك الكامل بالبلاد الشرقية، وقد انثنى عزمه عن قصد بلاد الروم، للتخاذل الذي حصل في عسكره، ثم رحل وعاد إلى مصر، وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده.
وفيها توفي الملك الزاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضاً وتوفي بها، وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز محمد صاحب حلب، وكان الزاهر المذكور شقيق الظاهر صاحب حلب.
وفيها توفي القاضي بهاء الدين بن شداد، في صفر وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة، وصحب السلطان صلاح الدين، وكان قاضي عسكره، ولما توفي صلاح الدين كان عمر القاضي المذكور نحو خمسين سنة، ونال القاضي بهاء الدين المذكور من المنزلة عند أولاد صلاح الدين، وعند الأتابك طغريل، ما لم ينلها أحد ولم يكن في أيامه من اسمه شداد، بل لعل ذلك في نسب أمه فاشتهر به وغلب عليه، وأصله من الموصل، وكان فاضلاً ديناً، وكان إقطاعه على الملك العزيز ما يزيد على مائة ألف درهم في السنة.
وفيها لما سارت الملوك إلى بلادهم من خدمة الملك الكامل، وصل الملك المظفر صاحب حماة ودخلها، لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، واتفق مولد ولده المنصور محمد بعد مقدمه بيومين في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فتضاعف السرور بقدوم الوالد والولد. قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد قصيدة طويلة في ذلك، فمنها:
غدا الملك محروس الذرى والقواعد ** بأشرف مولود لأشرف والد

حبينا به يوم الخميس كأنه ** خميس بدا للناس في شخص واحد

وسميته باسم النبي محمد ** وجديه فاستوفى جميع المحامد

أي باسم جديه الملك الكامل محمد، والد والدته، والملك المنصور محمد صاحب حماة، والد والده، ومنها:
كأني به في سدة الملك جالساً ** وقد ساد في أوصافه كل سائد

ووافاك من أبنائه وبنيهم ** بأنجم سعد نورها غير خامد

ألا أيها الملك المظفر دعوتي ** ستوري بها زندي ويشتد ساعدي

هضيئاً لك الملك الذي بقدومه ** ترحل عنا كل هم معاود

وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية، قصد كيقباذ كيخسرو صاحب بلاد الروم حران والرها، وحاصرهما، واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل.
وفيها توفي بالقاهرة القاسم بن عمر بن علي الحموي، المصري الدار، المعروف بابن الفارض، وله أشعار جيدة، منها قصيدته التي عملها على طريقة الفقراء، وهي مقدار ستمائة بيت.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة:
في هذه السنة سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد، ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر، لما حصل عنده من الخوف من عمه الملك الكامل، وقدم إلى الخليفة تحفاً عظيمة، وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه، وعلى أصحابه، وكان الناصر داود يظن أن الخليفة يستحضره في ملأ من الناس كما استحضر مظفر الدين صاحب إربل، فلم يحصل له ذلك، وألح في طلب ذلك من الخليفة فلم يجبه، فعمل الناصر المذكور قصيدة يمدح المستنصر فيها ويعرض بصاحب إربل واستحضاره، ويطلب الأسوة به وهي قصيدة طويلة منها:
فأنت الإمام العدل والمفرق الذي ** به شرفت أنسابه ومناصبه

جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ** وفرقت جمع المال فانهال كاتبه

ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ** على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه

أيحسن في شرع المعالي ودينها ** وأنت الذي تعزى إليك مذاهبه

بأني أخوض الدو والدو مقفر ** سآريبه مغبرة وسباسبه

وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ** فكلهم نحوي تدب عقاربه

منها:
وتسمح لي بالمال والجاه بغبتي ** وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه

ويأتيك غيري من بلاد قريبة ** له الأمن فيها صاحب لا يجانبه

فيلقى دنواً منك لم ألق مثله ** ويحص وما أحظى بما أنا طالبه

وينظر من لألآء قدسك نظرة ** فيرجع والنور الإمامي صاحبه

ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ** وصدق ولاء لست فيه أصاقبه

لكنت أسلي النفس عما أرومه ** وكنت أذود العين عما يراقبه

ولكنه مثلي ولو قلت أنني ** أزيد عليه لم يعب ذاك عايبه

وما أنا ممن يملأ المال عينه ** ولا بسوى التقريب تقضى مآربه

وكان الخليفة متوقفاً على استحضار الناصر داود، رعاية لخاطر الملك الكامل، فجمع بين المصلحتين واستحضره ليلاً، ثم عاد الملك الناصر إلى الكرك.
وفي هذه السنة سار السلطان الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية، واسترجع حران والرها من يد كيقباذ صاحب بلاد الروم، وأمسك أجناد كيقباذ ونوابه الذين كانوا بهما، وقيدهم وأرسلهم إلى مصر، فلم يستحسن ذلك منه، ثم عاد الملك الكامل إلى دمشق وأقام عند أخيه الملك الأشرف حتى خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة توفي شرف الدين محمد بن نصر بن عنين الزرعي، الشاعر المشهور، وكان شاعراً مفلقاً، وكان يكثر هجو الناس، عمل قصيدة خمسمائة بيت سماها مقراض الأعراض، لم يسلم منها أحد من أهل دمشق، ونفاه السلطان صلاح الدين إلى اليمن، فمدح صاحبها طغتكين بن أيوب، وحصل له منه أموال كثيرة، عمل بها ابن عنين متجراً وقدم به إلى مصر، وصاحبها حينئذ العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين، فلما أخذت من ابن عنين زكاة ما معه على عادة التجار، قال في العزيز:
ما كل من يتسمى بالعزيز لها ** أهل ولا كل برق سحبه غدقه

بين العزيزين بون في فعالهما ** فذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه

ثم سار ابن عنين المذكور إلى دمشق، ولازم الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبقي عنده. وتوفي بدمشق في هذه السنة، وديوانه مشهور.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة فيها عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية.
ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب:
وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمى البندق، واغتسل بماء بارد، فحم، ودخل إلى حلب، وقد قويت به الحمى واشتد مرضه، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد، وعمره نحو سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وعز الدين عمر بن مجلي، وجمال الدولة إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز، ضيفة خاتون بنت الملك العادل.
وفي هذه السنة توفي علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب بلاد الروم، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش بن أرسلان بن سلجوق.
وفي هذه السنة قويت الوحشة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وكان ابتداؤها ما فعله شيركوه صاحب حمص، لما قصد الملك الكامل بلاد الروم، فاتفق الملك الأشرف مع صاحبة حلب ضيفة خاتون أخت الملك الكامل، ومع باقي الملوك على خلاف الملك الكامل، خلا الملك المظفر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الملك الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه فقدم خوفاً من ذلك إلى دمشق وحلف للملك الأشرف ووافقه على قتال الملك الكامل، وكاتب الملك الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم، واتفق معه على قتال أخيه الملك الكامل إن خرج من مصر، وأرسل الملك الأشرف يقول للناصر داود صاحب الكرك إن وافقتني جعلتك ولي عهدي، وأوصيت لك بدمشق، وزوجتك بابنتي، فلم يوافقه الناصر على ذلك لسوء حظه، ورحل إلى الديار المصرية إلى خدمة الملك الكامل، وصار معه على ملوك الشام، فسر به الملك الكامل وجدد عقده على ابنته عاشوراء التي طلقها منه، وأركب الناصر داود بسناجق السلطنة، ووعده أنه ينتزع دمشق من الملك الأشرف أخيه ويعطيه إياها، وأمر الملك الكامل أمراء مصر وولده الملك العادل أبا بكر ابن الملك الكامل، فحملوا الغاشية بين يدي الملك الناصر داود، وبالغ في إكرامه.
وفي هذه السنة توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز، فحاصروا بغراس وكان قد عمرها الداويه، بعد ما فتحها السلطان صلاح الدين وخربها، وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب، فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين، وكثر فيهم القتل والأسر، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع.
وفي هذه السنة استخدم الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وهو بالبلاد الشرقية، وهي آمد وحصن كيفا وحران وغيرها، نائباً عن أبيه، الخوارزمية، عسكر جلال الدين منكبرني، فإنهم بعد قتله ساروا إلى كيقباذ ملك بلاد الروم، وخدموا عنده، وكان فيهم عدة مقدمين، مثل بركب خان، وكشلوخان وصاروخان، وفرخان، وبردي خان، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو وقبض على بركب خان وهو أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته، وساروا عن الروم، ونهبوا ما كان على طريقهم، فاستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، واستأذن أباه في استخدامهم، فأذن له واستخدمهم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة وقد استحكمت الوحشة بين الأخوين الكامل والأشرف، وقد لحق الملك الأشرف الذرب، وضعف بسببه، وعهد بالملك إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صاحب بصرى.
ذكر وفاة الملك الأشرف:
وفي هذه السنة توفي الملك الأشرف، مظفر الدين موسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد مرض بالذرب، واشتد به حتى توفي في المحرم من هذه السنة، وتملك دمشق أخوه الصالح إسماعيل بعهد منه، وكان مدة ملك الأشرف دمشق ثمان سنين وشهوراً، وعمره نحو ستين سنة، وكان مفرط السخاء يطلق الأموال الجليلة النفيسة، وكان ميمون النقيبة، لم تنهزم له راية، وكان سعيداً، ويتفق له أشياء خارقة للعقل، وكان حسن العقيدة، وبنى بدمشق قصوراً ومنتزهات حسنة، وكان منهمكاً في اللذات وسماع الأغاني فلما مرض أقلع عن ذلك، وأقبل على الاستغفار إلى أن توفي، ودفن في تربته بجانب الجامع، ولم يخلف من الأولاد إلا بنتاً واحدة، توجها الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل.
وكان سبب الوحشة بينه وبين أخيه الملك الكامل بعد ما كان بينهما من المصافات، أن الملك الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وبلادها وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت أخيه الملك الكامل إلى دمشق، وأيضاً لما فتح الملك الكامل آمد وبلادها لم يزده منها شيئاً، وأيضاً بلغه أن الملك الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام، وينتزع دمشق منه، فتغير بسبب ذلك، ولما استقر الملك الصالح إسماعيل في ملك دمشق، كتب إلى الملوك من أهله إلى كيخسرو صاحب بلاد الروم في اتفاقهم معه على أخيه الملك الكامل، فوافقوه على ذلك إلا الملك المظفر صاحب حماة، وأرسل الملك المظفر رسولاً إلى الملك الكامل يعرفه انتماءه إليه، أنه إنما وافق الملك الأشرف خوفاً منه، فقبل الملك الكامل عذره، وتحقق صدق ولائه ووعده بانتزاع سلمية من صاحب حمص وتسليمها إليه.
ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستيلائه عليها ووفاته، وما يتعلق بذلك:
لما بلغ الملك الكامل وفاة أخيه الملك الأشرف، سار إلى دمشق ومعه الناصر داود صاحب الكرك، وهو لا يشك أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق، لما كان قد تقرر بينهما، وأما الملك الصالح إسماعيل، فإنه استعد للحصار، ووصل إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص، ونازل الملك الكامل دمشق، وأخرج الملك الصالح إسماعيل النفاطين، فأحرق العقيبة جميعها وما بها من خانات وأسواق، وفي مدة حصار، وصل من عند صاحب حمص رجالة يزيدون على خمسين راجلاً، نجدة للصالح إسماعيل، وظفر بهم الملك الكامل، فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الملك الكامل على دمشق أرسل توقيعاً للملك المظفر صاحب حماة بسلمية، فتسلمها الملك المظفر واستقرت نوابه بها، وكان نزول الملك الكامل على دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة، في قوة الشتاء.
ثم سلم الملك الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الملك الكامل، وتعرض عنها بعلبك والبقاع، مضافاً إلى بصرى، وكان قد ورد من الخليفة المستنصر محي الدين يوسف ابن الشيخ جمال الدين ابن الجوزي، رسولاً للتوفيق بين الملوك، فتسلم الملك الكامل دمشق لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان الملك الكامل شديد الحنق على شيركوه صاحب حمص، فأمر العسكر فبرزوا لقصد حمص، وأرسل إلى صاحب حماة وأمره بالمسير إليها، فبرز الملك المظفر من حماة ونزل على الرستن، واشتد خوف شيركوه صاحب حمص، وتخضع للملك الكامل، وأرسل إليه نساءه، ودخلن على الملك الكامل، فلم يلتفت إلى ذلك، ثم بعد استقرار الملك الكامل، في دمشق، لم يلبث غير أيام حتى مرض واشتد مرضه، وكان سببه، أنه لما دخل قلعة دمشق أصابه زكام، فدخل الحمام وسكب عليه ماء شديد الحرارة، فاندفعت النزلة إلى معدته وتورمت منها، وحصل له حمى، ونهاه الأطباء عن القيء، وخوفوه منه فلم يقبل، وتقيأ فمات لوقته، وعمره نحو ستين سنة، وكانت وفاته لتسع بقين من رجب من هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان بين موته وموت أخيه الملك الأشرف نحو ستة أشهر، وكانت مدة ملكه لمصر من حين مات أبوه عشرين سنة، وكان بها نائباً قبل ذلك قريباً من عشرين سنة، فحكم في مصر نائباً وملكاً نحو أربعين سنة، وأشبه حاله حال معاوية بن أبي سفيان، فإنه حكم في الشام نائباً نحو عشرين، وملكاً نحو عشرين.
وكان الملك الكامل ملكاً جليلاً مهيباً حازماً، حسن التدبير، أمنت الطرق في أيامه، وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه صفي الدين بن شكر، فلما مات ابن شكر لم يستوزر أحداً بعده، وكان يخرج الملك الكامل بنفسه فينظر في أمور الجسور عند زيادة النيل، وإصلاحها، فعمرت في أيامه ديار مصر أتم العمارة، وكان محباً للعلماء ومجالستهم، وكانت عنده مسائل غريبة في الفقه والنحو يمتحن بها الفضلاء، إذا حضروا في خدمته، وكان كثير السماع للأحاديث النبوية، تقدم عنده بسببها الشيخ عمر بن دحية، وبنى له دار الحديث بين القصرين، في الجانب الغربي، وكانت سوق الآداب والعلوم عنده نافقة رحمه الله تعالى، وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من أكابر دولته، وهم الأمير فخر الدين ابن الشيخ، وإخوته عماد الدين، وكمال الدين، ومعين الدين، أولاد الشيخ المذكور، وكل من أولاد الشيخ المذكور حاز فضيلتي السيف والقلم، فكان يباشر التدريس، ويتقدم على الجيش، ولما مات السلطان الملك الكامل بدمشق، كان معه بها الملك الناصر داود صاحب الكرك فاتفق آراء الأمراء على تحليف العسكر للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل، وهو حينئذ نائب أبيه بمصر، فحلف له جميع العسكر، وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، نائباً عن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الملك الناصر داود بالرحيل عن دمشق، وهددوه إن أقام، فرحل الملك الناصر داود إلى الكرك، وتفرقت العساكر، فسار أكثرهم إلى مصر، وتأخر مع الجواد يونس بعض العسكر، ومقدمهم عماد الدين ابن الشيخ، وبقي يباشر الأمور مع الملك الجواد، ولما بلغ شيركوه صاحب حمص وفاة الملك الكامل فرح فرحاً عظيماً، وأتاه فرج ما كان يطمع نفسه به، وأظهر سروراً عظيماً، ولعب بالكرة على خلاف العادة، وهو في عشر السبعين، وأما الملك المظفر صاحب حماة، فإنه حزن لذلك حزناً عظيماً ورحل من الرستن وعاد إلى حماة وأقام فيها للعزاء، وأرسل صاحب حمص وارتجع سلمية من نواب الملك المظفر وقطع القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع النهر العاصي عن حماة، فسد مخرجه من بحيرة قدس التي بظاهر حمص، فبطلت نواعير حماة والطواحين، وذهب ماء العاصي في أودية بجوانب البحيرة، ثم لما لم يجد له الماء مسلكاً عاد فهدم ما عمله صاحب حمص، وجرى كما كان أولاً، وكذلك كان قد حصل لصاحب حلب ولعسكرها، الخوف من الملك الكامل، فلما بلغهم موته أمنوا من ذلك.
ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة:
ولما بلغ الحلبيين موت الكامل، اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة، ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة لموافقته الملك الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر صاحب حماة، وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة حينئذ عن ملك الملك المظفر صاحب حماة، ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم توران شاه بن صلاح الدين إلى حماة، بعد استيلائهم على المعرة، ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفر، ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة، عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب وهي صغيرة حينئذ، وتولى القبول عن ملك بلاد الروم قاضي دوقات، ثم عقد للملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، العقد على أخت كيخسرو، وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وأم ملكة خاتون المذكورة، بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد زوجها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، بكيقباذ المذكور، وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب.
وفيها خرجت الخوارزمية عن طاعة الملك الصالح أيوب بعد موت أبيه الملك الكامل، ونهبوا البلاد.
وفيها سار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بسنجار، فأرسل الملك الصالح واسترضى الخوارزمية وبذل لهم حران والرها، فعادوا إلى طاعته، واتقع مع بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فانهزم لؤلؤ وعسكره هزيمة قبيحة، وغنم عسكر الملك الصالح منهم شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة جرى بين الملك الناصر داوود صاحب الكرك، وبين الملك الجواد يونس، المتولي على دمشق، مصاف، بين جينين ونابلس، انتصر فيه الملك الجواد يونس، وانهزم الملك الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوى الملك الجواد بسبب هذه الوقعة وتمكن من دمشق، ونهب عسكر الملك الناس وأثقاله.
وفي أواخر هذه السنة ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي ابن الملك المظفر صاحب حماة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة:
في هذه السنة رحل عسكر حلب المحاصرة لحماة بعد مولد الملك الأفضل، وكان قد طالت مدة حصارهم لحماة، وضجروا فتقدمت إليهم ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل بالرحيل عنها، فرحلوا، وضاق الأمر على الملك المظفر في هذا الحصار، وأنفق فيه أموالاً كثيرة، واستمرت المعرة في يد الحلبيين، وسلمية في يد صاحب حمص، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة وبعرين، ولما جرى ذلك خاف الملك المظفر أن تخرج بعرين بسبب قلعتها، فتقدم بهدمها، فهدمت إلى الأرض في هذه السنة.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق:
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، استولى الملك الصالح أيوب ابن السلطان لملك الكامل على دمشق وأعمالها، بتسليم الملك الجواد يونس، وأخذ العوض كنها سنجار والرقة وعانة، وكان سبب ذلك أن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، لما علم باستيلاء الملك الجواد على دمشق، أرسل إليه عماد الدين ابن الشيخ لينتزع دمشق منه، وأن يعوض عنها إقطاعاً بمصر، فمال الجواد يونس إلى تسليمها إلى الملك الصالح حسبما ذكرناه، وجهز على عماد الدين ابن الشيخ من وقف له بقصة، فلما أخذها عماد الدين منه ضربه ذلك الرجل بسكين فقتله، ولما وصل الملك الصالح أيوب إلى دمشق، وصل معه الملك المظفر صاحب حماة معاضداً له، وكان قد لاقاه إلى أثناء الطريق، واستقر الملك الصالح أيوب المذكور في ملك دمشق، وسار الجواد يونس إلى البلاد الشرقية المذكورة، فتسلمها، ولما استقر ملك الملك الصالح بدمشق، وردت عليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، وسأله الملك المظفر صاحب حماة في منازلة حمص وأخذها من شيركوه، فبرز إلى الثنية، وكان قد نازلت الخوارزمية وصاحب حماة، حمص، فأرسل شيركوه مالاً كثيراً وفرقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى البلاد الشرقية، ورحل صاحب حماة إلى حماة، ثم كر الملك الصالح عائداً إلى دمشق، طالباً مصر، وسار من دمشق إلى خربة اللصوص، وعيد بها عيد رمضان، ووصل إليه بعض عساكر مصر مقفزين، ولما خرج الملك الصالح من دمشق، جعل نائبه فيها ولده الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح، وشرع الملك الصالح يكاتب عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ويستدعيه إليه، وعمه إسماعيل المذكور، يتحجج ويعتذر عن الحضور، ويظهر له أنه معه، وهو يعمل في الباطن على ملك دمشق وأخذها من الصالح أيوب، وكان قد سافر الملك الناصر صاحب الكرك إلى مصر واتفق مع الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل على قتال الملك الصالح أيوب.
ووصل أيضاً في هذه السنة محي الدين ابن الجوزي رسولاً من الخليفة ليصلح بين الأخوين العادل صاحب مصر، والصالح أيوب المستولي على دمشق، وهذا محي الدين هو الذي حضر ليصلح بين الكامل والأشرف، فاتفق أنه مات في حضوره في سنة أربع وثلاثين وخمس وثلاثين أربعة من السلاطين العظماء، وهم الملك الكامل صاحب مصر، وأخوه الأشرف صاحب دمشق، والعزيز صاحب حلب، وكيقباذ صاحب بلاد الروم. فقال في ذلك ابن المسجف أحد شعراء دمشق:
يا إمام الهدى أبا جعفر المن ** صور يا من له الفخار الأثيل

ما جرى من رسولك الآن محي الدين ** في هذه البلاد قليل

جاء والأرض بالسلاطين تزهى ** وغدا والديار منهم طلول

أقفر الروم والشآم ومصر ** أفهذا مغسل أم رسول

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة:
في هذه السنة في صفر سار الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ومعه شيركوه صاحب حمص، بجموعهما، وهجموا دمشق، وحصروا القلعة، وتسلمها الصالح إسماعيل، وقبض على المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب. وكان الملك الصالح أيوب بنابلس لقصد الاستيلاء على ديار مصر، وكان قد بلغه سعي عمه إسماعيل في الباطن. وكان للصالح أيوب طبيب يثق به يقال له الحكيم سعد الدين الدمشقي، فأرسله الصالح أيوب إلى بعلبك، ومعه قفص من حمام نابلس: ليطلعه بأخبار الصلح صاحب بعلبك وحال وصول الحكيم المذكور، علم به صاحب بعلبك، فاستحضره وأكرمه وسرق الحمام التي لنابلس، وجعل موضعها حمام بعلبك، ولم يشعر الطبيب المذكور بذلك، فصار الطبيب المذكور يكتب أن عمك إسماعيل قد جمع، وهو في نية قصد دمشق، ويطبق فيقعد الطير ببعلبك، فيأخذ الصالح إسماعيل البطاقة ويزور على الحكيم، أن عمك إسماعيل قد جمع ليعاضدك، وهو واصل إليك ويسرجه على حمام نابلس، فيعتمد الصالح أيوب على بطاقة الحكيم ويترك ما يرد إليه من غيره من الأخبار.
واتفق أيضاً أن الملك المظفر صاحب حماة، علم بسعي الصالح إسماعيل صاحب بعلبك في أخذ دمشق، مع خلوها ممن يحفظها، فجهز نائبه سيف الدين علي بن أبي علي، ومعه جماعة من عسكر حماة وغيرهم، وجهز معه من السلاح والمال شيئاً كثيراً، ليصل إلى دمشق ويحفظها لصاحبها، وأظهر الملك المظفر وابن أبي علي أنهما قد اختصما، وأن ابن أبي علي قد غضب واجتمع معه هذه الجماعة، وقد قصدوا فراق صاحب حماة، لأنه يريد أن يسلم حماة للفرنج، كل ذلك خوفاً من صاحب حمص شيركوه لئلا يقصد ابن أبي علي ويمنعه، فلم تخف عن شيركوه هذه الحيلة، ولما وصل ابن أبي جملي إلى بحيرة حمص، قصده شيركوه وأظهر أنه مصدقه، فيما ذكر، وسأله الدخول إلى حمص ليضيفه، وأخذ ابن أبي علي معه، وأرسل من استدعى باقي أصحاب ابن أبي علي إلى الضيافة، فمنهم من سمع ودخل إلى حمص ومنهم من هرب فسلم، فلما حصلوا عنده بحمص، قبض على ابن أبي علي، وعلى جميع من دخل حمص من الحمويين، واستولى على جميع ما كان معهم من السلاح والخزانة، وبقي يعذبهم ويطلب منهم أموالهم حتى امتصفاها ومات ابن أبي علي، وغيره في حبسه بحمص، والذي سلم وبقي إلى بعد موت شيركوه خلص ولما جرى ذلك ضعف الملك المظفر صاحب حماة ضعفاً كثيراً. وأما الملك الصالح أيوب فلما بلغه قصد عمه إسماعيل دمشق رحل من نابلس إلىالغور فبلغه استيلاء عمه على قلعة دمشق واعتقال ولده المغيث عمر، ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه من الملوك يحركون فقاراتهم ويرحلون، مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه، وأستاذ داره حسام الدين بن أبي علي، وأصبح الملك الصالح أيوب لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فقصد نابلس ونزل بها بمن بقي معه، وسمع الناصر داود بذلك، وكان قد وصل من مصر إلى الكرك فنزل بعسكره وأمسك الملك الصالح أيوب وأرسله إلى: الكرك واعتقله بها، وأمر بالقيام في خدمته بكل ما يختاره، ولما اعتقل الصالح أيوب بالكرك، تفرق عنه باقي أصحابه ومماليكه، ولم يبق منهم معه غير عمدة يسيرة، ولما جرى ذلك، أرسل أخو الصالح الملك العادل أبو بكر صاحب مصر يطلبه من.الملك الناصر داود، فلم يسلمه الناصر داود، فأرسل الملك العادل وتهدد الملك الناصر بأخذه بلاده، فلم يلتفت إلى ذلك.
ذكر غير ذلك:
وفي هذه السنة بعد اعتقال الملك الصالح بالكرك، قصد الناصر داود القدس، وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل، فحاصرها وفتحها وخرب القلعة، وخرب برج داود أيضاً، فإنه لما خربت القدس أولاً، لم يخرب برج داود، فخربه في هذه، المرة.
وفي هذه السنة توفي الملك المجاهد شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد بن شيركوه ابن شاذي وكانت مدة ملكه بحمص نحو ست وخمسين سنة، لأن صلاح الدين ملكه حمص سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، بعد موت أبيه محمد بن شيركوه، وكان عمره يومئذ نحو اثنتي عشرة سنة، وكان شيركوه المذكور عسوفاً لرعيته، وملك حمص بعده ولده الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه.
وفي هذه السنة استولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار، وأخذها من الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل.
ذكر خروج الملك الصالح أيوب من الاعتقال والقبض على أخيه الملك العادل صاحب مصر، وملك الملك الصالح أيوب ديار مصر:
وفي هذه السنة في أواخر رمضان، أفرج الملك الناصر داود صاحب الكرك عن ابن عمه الملك الصالح أيوب، واجتمعت عليه مماليكه، وكاتبه إليها زهير، وسار الناصر داود وصحبته الصالح أيوب إلى قبة الصخرة، وتحالفا بها، على أن تكون ديار مصر للصالح، ودمشق والبلاد الشرقية للناصر داود، ولما تملك الصالح أيوب، لم يف للناصر بذلك، وكان يتأول في يمينه أنه كان مكرهاً، ثم سار إلى غزة، فلما بلغ العادل صاحب مصر ظهور أمر أخيه الصالح، عظم عليه. وعلى والدته ذلك، وبرز بعسكر مصر ونزل على بلبيس لقصد الناصر داود، والصالح أخيه، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل المستولي على دمشق أن يبرز ويقصدهما من جهة الشام، وأن يستأصلهما. فسار الصالح إسماعيل بعساكر دمشق ونزل الفوار، فبينما الناصر داود والصالح أيوب في هذه الشدة، وهما بين عسكرين، قد أحاط بهما، إذ ركبت جماعة من المماليك الأشرفية ومقدمهم أيبك الأسمر، وأحاطوا بدهليز الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وقبضوا عليه، وجعلوه في خيمة صغيرة، وعليه من يحفظه، وأرسلوا إلى الملك الصالح أيوب يستدعونه، فأتاه فرج لم يسمع بمثله.
وسار الملك الصالح أيوب، والملك الناصر داود إلى مصر، وبقي في كل يوم يلتقي الملك الصالح فوج بعد فوج من الأمراء والعسكر، وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة، ثامن ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه نحو سنتين، ودخل الملك الصالح أيوب إلى قلعة الجبل بكرة الأحد، لست بقين من الشهر المذكور، وزينت له البلاد، وفرح الناس بمقدمه، وحصل للملك المظفر صاحب حماة من السرور والفرح بملك الملك الصالح بمصر، ما لا يمكن شرحه، فإنه مازال على ولائه، حتى أنه لما أمسك بالكرك، كان يخطب له بحماة وبلادها، ولما استقر الملك الصالح أيوب في ملك مصر، وصحبته الناصر داود، حصل عند كل واحد منهما إشعار من صاحبه، وخاف الناصر داود أن يقبض عليه، فطلب دستوراً وتوجه إلى بلاده، الكرك وغيرها.
ذكر وفاة صاحب ماردين:
في هذه السنة وقيل في سنة ست وثلاثين، توفي ناصر الدين أرتق أرسلان بن أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان يلقب الملك المنصور، وملك المذكور ماردين بعد أخيه حسام الدين بولق رسلان، حسبما تقدم ذكره في سنة ثمانين وخمسمائة وبقي أرتق أرسلان متغلباً عليه مملوك والده البقش، حتى قتله أرتق أرسلان في سنة إحدى وستمائة، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين حتى توفي في هذه السنة.
ولما مات الملك المنصور أرتق أرسلان، ملك بعده ابنه الملك السعيد نجم الدين غازي بن أرتق أرسلان المذكور حتى توفي في سنة ثلاث وخمسين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده في السنة المذكورة ابنه الملك المظفر قرا أرسلان بن غازي بن أرتق أرسلان، وكانت وفاة المظفر قرا أرسلان المذكور، سنة إحدى وتسعين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده ولده الأكبر شمس الدين داود ابن قرا أرسلان، سنة وتسعة أشهر. ثم توفي وملك بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي بن قرا أرسلان في سنة ثلاث وتسعين وستمائة ظناً، ونقلت وفيات المذكورين حسبما هو مشروح، من تقويم حل ماردين، ذكر فيه تواريخ بني أرتق، ولم أتحقق صحة ذلك، وسنذكر في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وفاة الملك المنصور غازي المذكور في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة:
في هذه السنة قبض الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بعد استقراره في ملك مصر، على أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية، وعلى غيره من الأمراء والمماليك الذين قبضوا على أخيه، وأودعهم الحبوس، وأخذ في إنشاء مماليكه، وشرع الملك الصالح أيوب المذكور من هذه السنة في بناء قلعة الجزيرة، واتخذها مسكناً لنفسه.
وفيها نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر، وبالس، وسلمهما إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك إعزاز وبلاداً معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك الحافظ المذكور، أصابه فالج، وخشي من أولاده، وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه.
وفي هذه السنة كثر عبث الخوارزمية وفسادهم، بعد مفارقة الملك الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب، فخرج إليهم عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين، ووقع بينهم القتال، فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، منهم الملك الصالح ابن الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على ثقال الحلبيين، وأسروا منهم عدة كثيرة، ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم بماله، فأخذوا بذلك شيئاً كثيراً، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على جبلان، وكثر عبثهم وفسادهم ونهبهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد، ودخلوا مدينة حلب، واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الزنا والفواحش والقتل ما ارتكبه التتر، ثم سارت الخوارزمية إلى منبج، وهجموها بالسيف يوم الخميس، لتسع بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وفعلوا من القتل والنهب مثلما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم، وهي حران، وما معها، بعد أن أخربوا بلد حلب.
ذكر عود الخوارزمية إلى بلد حلب وغيرها:
ثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة، ووصلوا إلى الجبول، ثم إلى تل إعزاز، ثم إلى سرمين، ثم إلى تل المعرة، وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق، نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور، وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر، ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة، ولم يتعرضوا إلى نهب، لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية، ثم إلى الرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم، ولحقتهم العرب، فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب، وسيبوا الأسرى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة. ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين، فعمل لهم الخوارزمية ستائر، ووقع القتال بينهم في الليل، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة، وقطعوا الفرات منها، وقصدوا الخوارزمية، واتقعوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة، فولى الخوارزمية منهزمين، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها، وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا، وكانتا للخوارزمية، فاستولى عليهما، وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، أسيراً في بلدة دارا من حين سوه في كسرة الحلبيين، فحمله بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل، وقدم له ثياباً وتحفاً، وبعث به إلى عسكر حلب، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين، وما مع ذلك، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور، ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم، وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه، وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر، وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبقي ولد المعظم وهو للملك الموحد عبد الله ابن المعظم توران شاه ابن الصالح أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، مالكاً لحصن كيفا إلى أيام التتر، وطالت مدته بها.
ذكر ما كان من الملك الجواد يونس:
في هذه السنة كان هلاك الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل، وصورة ما جرى له أنه كان قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه، وسار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر سنجار ويونس المذكور غائب عنها، واستولى عليها، ولم يبق بيد يونس من البلاد شيء فصار على البرية إلى غزة، وأرسل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المسير إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار يونس حينئذ ودخل إلى عكا وأقام مع الفرنج، فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق حينئذ وبذل مالاً للفرنج، وتسلم الملك لجواد يونس المذكور من الفرنج واعتقله ثم خنقه.
وفي هذه السنة ولى الملك الصالح أيوب، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام القضاء بمصر، والوجه القبلي، وكان عز الدين المذكور بدمشق، فلما قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر، سلم الصالح إسماعيل صفد والشقيف إلى الفرنج ليعضدوه، ويكونوا معه على ابن أخيه الصالح أيوب، فعظم ذلك على المسلمين، وأكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام التشنيع على الصالح إسماعيل بسبب ذلك، وكذلك جمال الدين أبو عمرو ابن الحاجب، ثم خافا من الصالح إسماعيل فسار عز الدين بن عبد السلام إلى مصر وتولى بها القضاء كرهاً، وسار جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب إلى الكرك، وأقام عند الملك الناصر داود صاحب الكرك، ونظم له مقدمته الكافية في النحو، ثم بعد ذلك سافر ابن الحاجب إلى الديار المصرية.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة والصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وصاحب حلب، متفقون على عداوة الملك الصالح أيوب، صاحب مصر، ولم يوافقهم صاحب حماة على ذلك، وأخلص في الانتماء إلى صاحب مصر.
وفي هذه السنة اتقعت الخوارزمية مع الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين ابن الملك العادل.
وفيها في شعبان أصاب جد الملك المظفر صاحب حماة الفالج وهو جالس بين أصحابه في قلعة حماة، وبقي أياماً لا يتكلم ولا يتحرك، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، وأرجف الناس بموته، وقام بتدبير المملكة مملوكه وأستاذ داره سيف الدين طغريل، ثم خف مرض الملك المظفر وفتح عينيه وصار يتكلم باللفظة واللفظتين، لا يكاد يفهم، وكان العاطب، الجانب الأيمن منه، وبعث إليه الصالح صاحب مصر طبيباً حاذقاً نصرانياً، يقال له النفيس بن طليب، فلم تنجع فيه المداواة، واستمر على ذلك إلى أن توفي بعد سنتين وكسر على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل بن أيوب بإعزاز وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب، قلعة إعزاز وأعمالها.
وفيها في شعبان توفي الشيخ العلامة كمال الدين موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في مذهب الشافعي وغيره، وكان يشتغل الحنفيون عليه في مذهب أبي حنيفة، ويحل الجامع الكبير في مذهب أبي حنيفة وكان متقنا علم المنطق والطبيعي والإلهي، وكان إماماً مبرزاً في العلم الرياضي، وأتقن المجسطي وأقليدس والموسيقى والحساب بأنواعه، وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، وشرح لهم هذه الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضح لهم مثله، وكان إماماً في العربية والتصريف، وكان يقرئ كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما، وكذلك كان إماماً في التفسير والحديث، وقدم الشيخ أثير الدين الأبهري واسمه المفضل بن عمر بن المفضل إلى الموصل، واشتغل على الشيخ كمال الدين المذكور، وكان الشيخ أثير الدين الأبهري المذكور حينئذ إماماً مبرزاً في العلوم، ومع ذلك يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه ويقرأ عليه.
قال القاضي شمس الدين بن خلكان: ولقد شاهدت بعيني أثير الدين الأبهري وهو يقرأ المجسطي على الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور، واستمر سنين عديدة يشتغل عليه، وكان الأثير إذ ذاك صاحب تصانيف، يشتغل فيها الناس، وقصد تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، الشيخ كمال الدين المذكور، وسأله في أن يقرئه المنطق سراً، وتردد ابن الصلاح إلى الشيخ كمال الدين مدة يقرأ عليه المنطق ولا يفهمه، فقال له ابن يونس المذكور: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن. فقال له ابن الصلاح: ولم ذلك؟ فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك، ولا يصح لك من هذا الفن شيء، فقبل ابن الصلاح إشارته، وترك قراءته، وكان الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور يتهم في دينه، لكون العلوم العقلية غالبة عليه، وكانت تعتريه غفلة لاستيلاء الفكرة عليه، فعمل فيه بعضهم.
أجدك إن قد جاد بعد التعبس ** غزال بوصل لي وأصبح مؤنسي

وعاطيته صهباء من فيه مزجها ** كرقة شعري أو كدين ابن يونس

وكانت ولادته في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بالموصل، وبها توفي في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربعين وستمائة:
وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية، ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، وبين عسكر حلب، ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، مصاف، قريب الخابور عند المجدل، في يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى ظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب شيئاً كثيراً، ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضاً، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي، واحتوى على خزانته ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب، في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.
ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب:
وهي والدة الملك العزيز، وفي هذه السنة، في ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك خاتون بنت الملك العادل أبي بكر أيوب وكان مرضها قرحة في مراق البطن، وحمى، ودفنت بقلعة حلب، وكان مولدها سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين، ويعطيها ابنه الظاهر غازي، فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها الملك العادل ضيف، فسماها ضيفة، فكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة.
وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون بأختها غازية، وتوفيت، فلما توفيت غازية تزوج بأختها ضيفة خاتون المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها الملك العزيز، وتصرفت في الملك تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام، وكانت مدة ملكها نحو ست سنين، ولما توفيت كان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز نحو ثلاث عشرة سنة، فأشهد عليه أنه بلغ، وحكم واستقل بمملكة حلب، وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني.
ذكر وفاة المستنصر بالله:
وفي هذه السنة توفي المستنصر بالله أبو جعفر المنصور ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر أحمد، بكرة الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهراً، وكان حسن السيرة، عادلاً في الرعية، وهو الذي بنى المدرسة ببغداد، المسماة بالمستنصرية على شط دجلة من الجانب الشرقي، مما يلي دار الخلافة، وجعل لها أوقافاً جليلة على أنواع البر.